الفارس نائب المدير
عدد الرسائل : 96 دعاء : تاريخ التسجيل : 29/07/2008
| موضوع: حالة حصار"... آخر قصيدة لمحمود درويش الخميس أغسطس 14, 2008 6:32 pm | |
| هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت، قُرْبَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِ، نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ، وما يفعل العاطلون عن العمل: نُرَبِّي الأملْ.
بلادٌ علي أُهْبَةِ الفجر. صرنا أَقلَّ ذكاءً، لأَنَّا نُحَمْلِقُ في ساعة النصر: لا لَيْلَ في ليلنا المتلألئ بالمدفعيَّة. أَعداؤنا يسهرون وأَعداؤنا يُشْعِلون لنا النورَ في حلكة الأَقبية.
هنا، بعد أَشعار أَيّوبَ لم ننتظر أَحداً... سيمتدُّ هذا الحصارُ إلي أن نعلِّم أَعداءنا نماذجَ من شِعْرنا الجاهليّ. أَلسماءُ رصاصيّةٌ في الضُحي بُرْتقاليَّةٌ في الليالي. وأَمَّا القلوبُ فظلَّتْ حياديَّةً مثلَ ورد السياجْ.
هنا، لا أَنا هنا، يتذكَّرُ آدَمُ صَلْصَالَهُ... يقولُ علي حافَّة الموت: لم يَبْقَ بي مَوْطِئٌ للخسارةِ: حُرٌّ أَنا قرب حريتي. وغدي في يدي. سوف أَدخُلُ عمَّا قليلٍ حياتي، وأولَدُ حُرّاً بلا أَبَوَيْن، وأختارُ لاسمي حروفاً من اللازوردْ...
في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ بين تذكُّرِ أَوَّلها. ونسيانِ آخرِها.
هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، علي دَرَج البيت، لا وَقْتَ للوقت. نفعلُ ما يفعلُ الصاعدون إلي الله: ننسي الأَلمْ.
الألمْ هُوَ: أن لا تعلِّق سيِّدةُ البيت حَبْلَ الغسيل صباحاً، وأنْ تكتفي بنظافة هذا العَلَمْ. لا صديً هوميريٌّ لشيءٍ هنا. فالأساطيرُ تطرق أبوابنا حين نحتاجها. لا صديً هوميريّ لشيء. هنا جنرالٌ يُنَقِّبُ عن دَوْلَةٍ نائمةْ تحت أَنقاض طُرْوَادَةَ القادمةْ
يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ بمنظار دبّابةٍ... نقيسُ المسافَةَ ما بين أَجسادنا والقذائفِ بالحاسّة السادسةْ. أَيُّها الواقفون علي العَتَبات ادخُلُوا، واشربوا معنا القهوةَ العربيَّةَ غقد تشعرون بأنكمُ بَشَرٌ مثلناف. أَيها الواقفون علي عتبات البيوت! اُخرجوا من صباحاتنا، نطمئنَّ إلي أَننا بَشَرٌ مثلكُمْ!
نَجِدُ الوقتَ للتسليةْ: نلعبُ النردَ، أَو نَتَصَفّح أَخبارَنا في جرائدِ أَمسِ الجريحِ، ونقرأ زاويةَ الحظِّ: في عامِ أَلفينِ واثنينِ تبتسم الكاميرا لمواليد بُرْجِ الحصار.
كُلَّما جاءني الأمسُ، قلت له: ليس موعدُنا اليومَ، فلتبتعدْ وتعالَ غداً !
أُفكِّر، من دون جدوي: بماذا يُفَكِّر مَنْ هُوَ مثلي، هُنَاكَ علي قمَّة التلّ، منذ ثلاثةِ آلافِ عامٍ، وفي هذه اللحظة العابرةْ؟ فتوجعنُي الخاطرةْ وتنتعشُ الذاكرةْ
عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ، بيضاءَ بيضاءَ، تغسِلُ خَدَّ السماء بأجنحةٍ حُرَّةٍ، تستعيدُ البهاءَ وملكيَّةَ الجوِّ واللَهْو. أَعلي وأَعلي تطيرُ الحماماتُ، بيضاءَ بيضاءَ. ليت السماءَ حقيقيّةٌ غقال لي رَجَلٌ عابرٌ بين قنبلتينف
الوميضُ، البصيرةُ، والبرقُ قَيْدَ التَشَابُهِ... عمَّا قليلٍ سأعرفُ إن كان هذا هو الوحيُ... أو يعرف الأصدقاءُ الحميمون أنَّ القصيدةَ مَرَّتْ، وأَوْدَتْ بشاعرها
غ إلي ناقدٍ: ف لا تُفسِّر كلامي بملعَقةِ الشايِ أَو بفخِاخ الطيور! يحاصرني في المنام كلامي كلامي الذي لم أَقُلْهُ، ويكتبني ثم يتركني باحثاً عن بقايا منامي
شَجَرُ السرو، خلف الجنود، مآذنُ تحمي السماءَ من الانحدار. وخلف سياج الحديد جنودٌ يبولون ـ تحت حراسة دبَّابة ـ والنهارُ الخريفيُّ يُكْملُ نُزْهَتَهُ الذهبيَّةَ في شارعٍ واسعٍ كالكنيسة بعد صلاة الأَحد...
نحبُّ الحياةَ غداً عندما يَصِلُ الغَدُ سوف نحبُّ الحياة كما هي، عاديّةً ماكرةْ رماديّة أَو مُلوَّنةً.. لا قيامةَ فيها ولا آخِرَةْ وإن كان لا بُدَّ من فَرَحٍ فليكن خفيفاً علي القلب والخاصرةْ فلا يُلْدَغُ المُؤْمنُ المتمرِّنُ من فَرَحٍ ... مَرَّتَينْ!
قال لي كاتبٌ ساخرٌ: لو عرفتُ النهاية، منذ البدايةَ، لم يَبْقَ لي عَمَلٌ في اللٌّغَةْ
غإلي قاتلٍ:ف لو تأمَّلْتَ وَجْهَ الضحيّةْ وفكَّرتَ، كُنْتَ تذكَّرْتَ أُمَّك في غُرْفَةِ الغازِ، كُنْتَ تحرَّرتَ من حكمة البندقيَّةْ وغيَّرتَ رأيك: ما هكذا تُسْتَعادُ الهُويَّةْ
غإلي قاتلٍ آخر:ف لو تَرَكْتَ الجنينَ ثلاثين يوماً، إِذَاً لتغيَّرتِ الاحتمالاتُ: قد ينتهي الاحتلالُ ولا يتذكَّرُ ذاك الرضيعُ زمانَ الحصار، فيكبر طفلاً معافي، ويدرُسُ في معهدٍ واحد مع إحدي بناتكَ تارِيخَ آسيا القديمَ. وقد يقعان معاً في شِباك الغرام. وقد يُنْجبان اُبنةً (وتكونُ يهوديَّةً بالولادةِ). ماذا فَعَلْتَ إذاً ؟ صارت ابنتُكَ الآن أَرملةً، والحفيدةُ صارت يتيمةْ ؟ فماذا فَعَلْتَ بأُسرتكَ الشاردةْ وكيف أَصَبْتَ ثلاثَ حمائمَ بالطلقة الواحدةْ ؟
لم تكن هذه القافيةْ ضَرُوريَّةً، لا لضْبطِ النَغَمْ ولا لاقتصاد الأَلمْ إنها زائدةْ كذبابٍ علي المائدةْ
الضبابُ ظلامٌ، ظلامٌ كثيفُ البياض تقشِّرُهُ البرتقالةُ والمرأةُ الواعدة.
الحصارُ هُوَ الانتظار هُوَ الانتظارُ علي سُلَّمٍ مائلٍ وَسَطَ العاصفةْ
وَحيدونَ، نحن وحيدون حتي الثُمالةِ لولا زياراتُ قَوْسِ قُزَحْ
لنا اخوةٌ خلف هذا المدي. اخوةٌ طيّبون. يُحبُّوننا. ينظرون إلينا ويبكون. ثم يقولون في سرِّهم: ليت هذا الحصارَ هنا علنيٌّ.. ولا يكملون العبارةَ: لا تتركونا وحيدين، لا تتركونا .
خسائرُنا: من شهيدين حتي ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ. وعَشْرَةُ جرحي. وعشرون بيتاً. وخمسون زيتونةً... بالإضافة للخَلَل البُنْيويّ الذي سيصيب القصيدةَ والمسرحيَّةَ واللوحة الناقصةْ
في الطريق المُضَاء بقنديل منفي أَري خيمةً في مهبِّ الجهاتْ: الجنوبُ عَصِيٌّ علي الريح، والشرقُ غَرْبٌ تَصوَّفَ، والغربُ هُدْنَةُ قتلي يَسُكُّون نَقْدَ السلام، وأَمَّا الشمال، الشمال البعيد فليس بجغرافيا أَو جِهَةْ إنه مَجْمَعُ الآلهةْ
قالت امرأة للسحابة: غطِّي حبيبي فإنَّ ثيابي مُبَلَّلةٌ بدَمِهْ
إذا لم تَكُنْ مَطَراً يا حبيبي فكُنْ شجراً مُشْبَعاً بالخُصُوبةِ، كُنْ شَجَرا وإنْ لم تَكُنْ شجراً يا حبيبي فكُنْ حجراً مُشْبعاً بالرُطُوبةِ، كُنْ حَجَرا وإن لم تَكُنْ حجراً يا حبيبي فكن قمراً في منام الحبيبة، كُنْ قَمرا غ هكذا قالت امرأةٌ لابنها في جنازته ف
أيَّها الساهرون ! أَلم تتعبوا من مُرَاق
الفارس | |
|